سوريا بعد الأسد- فجر جديد، تحديات إقليمية، ومستقبل واعد

بعد مرور أسابيع على الانتصار العظيم لثورة الشعب السوري الأبيّ ضد نظام آل الأسد البائد، وفرار الرئيس المخلوع بشّار من الأراضي السورية، متخليًا عن كل من سانده وناصره، وقدم التضحيات الجسام من أجله، واهمًا بأنه خالد في السلطة أو أنه الأجدر بحماية البلاد من "المؤامرات الخارجية" ومن ملايين "الإرهابيين" من أبناء الشعب السوري المقهور، الذين شتتهم وظلمهم وحولهم إلى نازحين ولاجئين في شتى بقاع الأرض، كما كان يدّعي ويكرّر في خطاباته الجوفاء، وترك خلفه طغمة من تجّار الحروب الانتهازيين والمستغلين..، بدأت سوريا الآن تستشعر هويتها الأصيلة وتستعيد ملامح وجهها الوطني العريق المتجذر في أعماق التاريخ، بعد أن كاد اليأس القاتل يستوطن قلوب الشعب السوري المكلوم.
متضررون وكارهون
هذا التحول الجذري والعميق في المشهد السوري، يسير حتى هذه اللحظة بتؤدة وحذر، يمزج بين الفرحة العارمة والترقب الحذر، لأن الحرية كقيمة إنسانية نبيلة ومطلب سامٍ في العالم العربي قاطبة، وفي منطقة المشرق العربي على وجه الخصوص، لها أعداؤها المتربصون، سواء على مستوى الأنظمة اللاديمقراطية القمعية أو المستبدّة المتجبرة، أو على مستوى النخب السياسية والإعلامية والاقتصادية الفاسدة التي أوثقت نفسها ومصائرها بتلك الأنظمة السلطوية المتألهة.
لا شك أن بعض القوى والأنظمة العربية، ستنظر إلى هذه الثورة المظفرة وهذا الانتصار الساحق على الاستبداد بعين الريبة والشك، خشيةً من انتقال العدوى وتكرار السيناريو في هذا القطر أو ذاك، لا سيّما أن بلدانها لا تزال ترزح تحت وطأة الفساد المستشري والتخلف المزمن والتدهور الاقتصادي المتفاقم وكبت الحريات المستفحل بعد ما يسمى بـ "الربيع العربي" المشؤوم.
إن نجاح الثورة في إسقاط النظام الفاشي، ثم نجاحها لاحقًا في إعادة ترتيب الأوضاع الداخلية لسوريا المنكوبة والنهوض بها اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا، قد لا يروق لبعض الأنظمة المستبّدة القائمة على قمع الشعوب والتحكم في مقدراتها وثرواتها، ومن هنا فليس من المستبعد على الإطلاق أن تلجأ تلك الأنظمة إلى التلاعب بمصير السوريين وتحريض بعض المتضررين من الثورة، من فلول النظام البائد، ودعمهم بكل ما أوتيت من قوة لإثارة النعرات الطائفية والمذهبية والعِرْقية المقيتة لزعزعة أمن واستقرار البلاد وتقويض وحدتها الوطنية.
وهذا يستدعي يقظةً دائمة وحذرًا شديدًا، من خلال تعزيز وتدعيم البيئة السورية الداخلية، والانفتاح الواسع على الدول العربية الشقيقة وطمأنتها على قاعدة الاحترام الكامل لسيادة الدول، وعدم التدخل إطلاقًا في شؤونها الداخلية، وفتح أبواب التعاون على مصراعيها مع كل من يريد الخير والازدهار لسوريا والمنطقة بأسرها.
إسرائيل والمنظومة الغربية
في خطٍ موازٍ تماماً، يبدي الاحتلال الإسرائيلي البغيض قلقًا بالغًا من مآلات الثورة السورية المباركة، فالحرية لأي شعب عربي ليست في صالح الكيان الصهيوني الغاصب، إضافة إلى أن تل أبيب، تخشى من الثوار الجدد بصبغتهم الإسلامية الواضحة، الأمر الذي تتفق عليه المنظومة الغربية أيضًا، لقناعتهم الراسخة بأن الإسلاميين برؤيتهم القيَميّة والسياسية وتطلعهم الدائم للاستقلال والنهوض كأمّة قوية، يشكل ذلك تهديدًا خطيرًا لهم ولدولهم المهيمنة والمسيطرة على حوض البحر الأبيض المتوسّط، ومصادر الطاقة الحيوية، والسوق الاستهلاكي الضخم في عموم الدول العربية.
إسرائيلُ المحتلة للأراضي الفلسطينية ولأجزاء من الأراضي السورية، والدولُ الغربية "الديمقراطية" ذات النزعة الاستعمارية، لن تكون سعيدة أبدًا بالتغيّر الذي يقود سوريا وشعبها نحو الحرية والاستقلال والازدهار، فسورية ليست بلدًا هامشيًا في الخريطة العربية، ولذلك فإن تلك الدول وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية ستسعى جاهدة لاحتواء أي نظام جديد في دمشق وفقًا لسياستها الخارجية وثوابتها الراسخة، ومنها الحفاظ على أمن إسرائيل ومصالحها، كأحد أهم محددات العلاقة مع واشنطن، التي تملك القدرة الهائلة على محاصرة أي بلد عبر نفوذها الواسع في المؤسسات الدولية، وعلاقاتها السياسية والاقتصادية المتشعبة والعابرة للقارات.
بناءً على ذلك، فإن المرحلة القادمة، ستشهد جولات مكثفة من التواصل والحوارات المعمقة بين دمشق والعالم الغربي وخاصة واشنطن، بهدف طمأنة الأخيرة بأن سوريا الجديدة لن تشكل تهديدًا لـ "مصالحها" المزعومة، وستكون هناك ملفات شائكة ومعقدة مطروحة على الطاولة ومنها؛ قضية إسرائيل واحتلالها لأراضٍ سورية، والنفوذ الإيراني المتزايد، وملف الأكراد السوريين المدعومين من الولايات المتحدة؛ بحجة محاربة تنظيم الدولة الإرهابي، وطبيعة الحكم في دمشق وسياسته الداخلية والخارجية.
فالولايات المتحدة ستحاول بكل ما أوتيت من قوة ابتزاز دمشق وقيادة الثورة؛ بهدف ترويضها وتطويعها بما يتماشى مع مصالح المنظومة الغربية، تحت التهديد المستمر بعدم الاعتراف بالنظام الجديد، ومحاصرته والتضييق الخانق على الشعب السوري إذا اقتضى الأمر، فالمنظومة الغربية وفي مقدمتها واشنطن لا يهمّها سوى مصالحها الأنانية ومصالحها فقط، بغض النظر عن القيم الإنسانية النبيلة وحرية الشعوب وحقوق الإنسان الأساسية، وخير شاهد على ذلك ما يتعرض له الشعب الفلسطيني الأعزل من إبادة جماعية بشعة بغطاء ودعم وسلاح أميركي في قطاع غزة المحاصر.
إيران خسرت ولكن
سقوط نظام الأسد، يمثل خسارة فادحة لطهران، التي دفعت أثمانًا باهظة لحمايته منذ اندلاع الاحتجاجات الشعبية السلمية، باعتباره حليفًا إستراتيجيًا وثيقًا، أتاح لإيران الاستفادة القصوى من الجغرافيا السياسية لموقع سوريا المتميز شرق المتوسّط، وبكونها ممرًا بريًا إجباريًا للوصول إلى لبنان وحزب الله اللبناني المتحالف معها.
خسارة إيران في سوريا مركّبة ومتشعبة، فهي لم تخسر نظامًا فحسب وإنما خسرت بلدًا بأكمله بأرضه وشعبه؛ بسبب موقفها العدائي السافر من الثورة السورية منذ العام 2011، واشتراكها الأمني والعسكري المباشر مع حزب الله والعديد من الفصائل الطائفية الموالية لها في دعم بشار الأسد ونظامه المجرم المسؤول عن سقوط مئات الآلاف من الضحايا الأبرياء، وتدمير المدن والقرى، وتشريد وتطفيش نصف الشعب السوري.
مما سيعقّد المشهد أكثر أمام إيران ومستقبل علاقتها بدمشق والقيادة الجديدة، اتهامها فصائل الثورة بعد دخولها دمشق وهروب بشار الأسد، بأنها مجرد أدوات طيّعة في يد قوى أجنبية معادية، وتلويحها بأن الأمور لن تستقر لها في سوريا.
إذا لم تستدرك طهران حجم خطئها الفادح، واعترفت بالأمر الواقع الذي فرضته الثورة السورية المباركة ورحّب به الشعب السوري قاطبة، فإن خسارتها ستتعاظم وتتفاقم، لأن سوريا هي صلة الوصل الحيوية بين إيران ولبنان، وهي الأكثر تأثيرًا على البيئة اللبنانية التي تتنفس من العمق والجغرافيا السوريّة.
من مصلحة إيران العليا أن تعيد النظر مليًا في موقفها المتصلب من الثورة السورية؛ لأنها تعبير صادق عن إرادة شعب تواق للحرية والاستقلال أولًا، وثانيًا لأن حزب الله اللبناني ليس في وضع جيد إطلاقًا بعد المعركة الأخيرة مع الاحتلال الإسرائيلي، وما زال خاضعًا لمقتضيات القرار الأممي رقم 1701، ولموجبات اتفاق وقف إطلاق النار بإشراف الأمم المتحدة، وفرنسا، والولايات المتحدة الحليف الأوثق لإسرائيل التي تتربص بلبنان، وقد لا تنسحب من الأراضي التي احتلتها خلال العدوان الأخير.
إن مصلحة إيران وحزب الله اللبناني تقتضي، التعامل بإيجابية وانفتاح مع الإدارة السورية الجديدة في دمشق، وتأييد الشعب السوري وتطلعاته المشروعة، وطي صفحة الماضي بكل ما فيها من مرارات وأحقاد، والبناء على ما استجد من واقع جديد، حتى وإن جاء متعارضًا مع سياسات إيران ومواقفها السابقة.
حرية الشعب السوري وحقه الأصيل في تقرير مصيره لا تتعارض إطلاقًا مع مصالح القضية الفلسطينية العادلة، فالشعب السوري كان وسيبقى دائمًا داعمًا وسندًا طبيعيًا لفلسطين وشعبها المناضل، والتعاون والتنسيق مع سوريا الجديدة سيخدم هذا التوجّه، فالثورة السورية والشعب السوري مع فلسطين قبل وبعد الأسد، وهذا يستدعي تذليل العقبات وتدوير الزوايا الحادة في العلاقات السياسية على قاعدة الاحترام المتبادل لسيادة الدول، وإرادة الشعوب الحرة.
من يملأ الفراغ؟
تعد تركيا، بعد الشعب السوري العظيم، الرابح الأكبر من نجاح الثورة السورية المباركة، فهي الدولة التي دعمتها بقوة منذ العام 2011، واستقبلت في سياقها أكثر من 3 ملايين لاجئ سوري كريم، وبعد تعنّت بشار الأسد ورفضه التام لأي تسوية سياسية، أعطت تركيا الغطاء الكامل لفصائل الثورة لكي تتقدّم نحو حلب الشهباء، ومن ثم حمص، وحماة، ودمشق.
إن الاستقرار الحكومي والمجتمعي في سوريا، والحفاظ على وحدة الأراضي السورية، يعتبران عنصرين حاسمين للأمن القومي التركي، لأن الاستقرار يعني فرصًا واعدة وطاقات كامنة للاستثمار في العلاقات الثنائية في كافة المجالات بين بلدين مهمّين يربط بينهما تاريخ مشترك طويل وحافل، وحدود جغرافية تمتد لنحو 900 كيلومتر.
كما أن الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، سيمنع شبح قيام كيان سياسي كردي انفصالي على الحدود التركية الجنوبية، فتركيا ترى في أي كيان سياسي عِرقي/كردي على حدودها، تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي وسيؤثّر سلبًا على استقرارها الداخلي، فهي ما زالت تعيش أزمة مزمنة في علاقتها مع شرائح واسعة من المكوّن الكردي التركي داخل أراضيها، بمعنى آخر أن وحدة الأراضي السورية تعني بالضرورة وحدة للأراضي التركية أيضًا.
إذن تركيا علاوة على أنها دولة رابحة بكل المقاييس، فهي ستعمل جاهدة على دعم سوريا الجديدة في كل القطاعات السياسية والاقتصادية والطبية والبنى التحتية والأمنية والعسكرية؛ لأن نجاح التجربة السورية سيكون بمثابة نجاح مدوٍ لتركيا ولأمنها القومي من منظور إستراتيجي شامل.
ومن هنا فإن دخول تركيا وقطر الدولتين الصديقتين، والداعمتين للثورة السورية بكل قوة، سيكون فرصة عظيمة لهما كما لسوريا الجديدة، للاستثمار المكثف وبناء الشراكات الإستراتيجية المتينة، ولعل وزن الدولتين؛ قطر وتركيا في الإقليم سيكون عاملًا مساعدًا لسوريا لتجاوز التحديات الأمنية والاقتصادية والسياسية العسيرة، ومواجهة فرضيات الحصار الظالم، أو العبث بأمن واستقرار سوريا في المدى المنظور.
يبقى الرابح الأكبر على الإطلاق هو الشعب السوري العظيم، الذي امتلك أخيرًا طريق الحرية والحق الكامل في تقرير مصيره بنفسه، وبلا شك أن نجاح السوريين في إدارة بلدهم سيكون خيرًا عميمًا، ليس فقط لسوريا، وإنما للمنطقة بأسرها ولأصدقاء الشعب السوري الأوفياء، الذي تحمّل عناء وظلمًا استثنائيًا آن الأوان لينتهي.
سوريا الجديدة ستعيد رسم ميزان القوى في منطقة الشرق الأوسط المضطربة، وستعيد تشكيل التحالفات في المنطقة بشكل جذري، فنحن نقف بالفعل على أعتاب ميزان قوى إقليمي جديد تمامًا؛ ففي الوقت الذي بدأت فيه إيران تتراجع بشكل ملحوظ في سوريا ولبنان، وقد يتأثر حضورها المتزايد لاحقًا في العراق، فإن تركيا تستعد لملء الفراغ شرق المتوسّط المتاخم لحدودها الجنوبية والذي يعتبر جزءًا لا يتجزأ من مجالها الحيوي.
هذا تحوّل إقليمي مهم وله دلالات كبيرة، وتموضع ستنحاز له بالتأكيد بعض الدول العربية الأقرب لتركيا وسوريا الثورة، وستعاديه دول أخرى لا تتفق مع تركيا لأسباب تنافسية أو لأسباب أيديولوجية متجذرة على قاعدة رفض حكم الإسلاميين سواء كانوا بلحية أم بربطة عنق أنيقة، أو لأسباب دولية تتعلق بنظرة الولايات المتحدة الأميركية المستقبلية لهذا التموضع الإقليمي الجديد، فالعديد من الدول تحرص بشدة على البقاء في الفلك الأميركي وما يقتضيه ذلك من مواقف سياسية.
سوريا الجديدة ونجاح الثورة السورية، يعتبران مُعْطًى في غاية الأهمية على أعتاب مرحلة حسّاسة ودقيقة يعيشها الشرق الأوسط بأكمله، فالمنطقة تعيش مخاضًا عسيرًا لم ينته بعد؛ سواء كان ذلك في فلسطين المحتلة، ولبنان المأزوم، والعراق الجريح، وإيران المتربصة، واليمن المنكوب، وشرق المتوسّط الملتهب، والبحر الأحمر المضطرب، فالمنطقة تسير على سطح رمال متحركة تحتاج إلى الكثير من الوقت والجهد والمعارك الطاحنة حتى تستقر الأوضاع، وأحد أهم معالم هذا الاستقرار المنشود أن تمتلك الشعوب حريّتها الكاملة وحقها غير القابل للتصرف في تقرير مصيرها بنفسها، وهذا المشوار طويل وشاق ولكنه ربما قد بدأ بالفعل.